الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
أحدهما قال في القديم: (إنه يتحرى، ويبني على ما يغلب على ظنه أنه أحرم به)؛ لأن هذا اشتباه في شرط من شرائط العبادة، فكان له الاجتهاد فيه، كالإناءين والقبلة. فعلى هذا: يعمل على ما يغلب على ظنه، والمستحب له: أن يقرن. والثاني: قال في الجديد: (إنه يلزمه أن يقرن)، وهو الصحيح؛ لأنه شك لحقه في فعله بعد التلبس بالعبادة، فلم يكن له الاجتهاد، وإنما يلزمه اليقين، كمن شك في عدد الركعات، ويخالف الإناءين والقبلة؛ لأن له على ذلك هناك أمارات يرجع إليها عند الاشتباه، وهاهنا لا أمارة له على نفسه يرجع إليها. فعلى هذا: يلزمه أن ينوي القران. ونقل المزني: (أنه يصير قارنا)، وليس هذا على ظاهره، بل أراد: أنه يلزمه نية القران. وهل يجزئه ما يأتي به عن فرض الحج والعمرة؟ ينظر فيه: فإن طرأ عليه هذا الشك قبل أن يفعل شيئا من المناسك بعد الإحرام، ونوى القران.. أجزأه الحج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه إن كان قد أحرم به.. فقد انعقد، وإن كان قد أحرم بعمرة.. فقد أدخل عليها الحج قبل الطواف، وذلك جائز. وأما العمرة: فإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج.. سقط عنه فرض العمرة أيضا ووجب عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. فهل تجزئه: العمرة هاهنا؟ فيه وجهان: أحدهما قال أبو إسحاق في " الشرح ": تجزئه العمرة أيضا؛ لأن إدخال العمرة على الحج إنما لا يجوز من غير حاجة، وهاهنا به حاجة إلى إدخالها. فعلى هذا: يجب عليه دم القران أيضا. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا تجزئه العمرة؛ لجواز أن يكون قد أحرم بالحج، والفرض لا يسقط بالشك. فعلى هذا: هل يجب عليه دم القران؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح -: أنه لا يجب عليه؛ لأنا لم نحكم له بالقران، والأصل براءة ذمته منه. والثاني: يجب عليه: لجواز أن يكون قارنا. وإن طرأ عليه هذا الشك قبل طواف القدوم، وبعد أن وقف بعرفة، وكان وقت الوقوف باقيا.. فإنه ينوي القران، ويقف بعرفة، ويجزئه الحج، وهذا مراد الشيخ أبي إسحاق في "المهذب" بقوله: إذا نسي بعد الوقوف، وقبل طواف القدوم. وأما العمرة.. فهل يسقط عنه فرضها؟ إن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. سقط عنه فرضها، وكان عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف، أو لا يجوز إدخالها عليه أصلا.. لم يسقط عنه فرضها، وفي دم القران وجهان، مضى توجيههما. وإن طرأ عليه هذا الشك بعد الوقوف بعرفة وبعد فوات وقته، وقبل طواف القدوم، ونوى القران.. لم يجزه عن الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد فات الوقوف. وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها عليه قبل الوقوف لا غير، ولا يجوز بعده.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة. وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وبعد الوقوف بعرفة.. لم يجزه الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد طاف للعمرة. وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها قبل الوقوف لا غير.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة. وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وقبل الوقوف بعرفة. فإن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج، أو نوى القران.. صحت له العمرة، ولا يصح له الحج؛ لأنه لا يجوز له إدخال الحج على العمرة بعد الطواف. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. لم يصح له الحج ولا العمرة؛ لأنه يحتمل أنه كان معتمرا، فلا يصح إدخال الحج عليها بعد الطواف، ويحتمل أنه كان حاجا، وإدخال العمرة على الحج لا يجوز. قال ابن الحداد: فإن أراد أن يجزئه الحج.. فإنه لا ينوي القران، ولكن يسعى، بين الصفا والمروة، ويحلق رأسه، ثم يحرم بالحج؛ لأنه إن كان معتمرا.. فهذا وقت الحلاق والتحلل، وإن كان حاجا أو قارنا.. فلا يضره تجديد إحرام آخر. وذكر في "المهذب": أنه يعيد الطواف. ولا معنى له؛ لأنه قد طاف. وقال أبو زيد المروزي: إن كان الرجل فقيها، وفعل ما قال ابن الحداد باجتهاده.. فلا كلام، وأما إذا استفتى.. فإنا لا نفتي بجواز الحلاق؛ لأنه يحتمل أن يكون محرما بالحج، فلا يجوز له الحلق قبل وقته. قال القاضي أبو الطيب: ويمكن ابن الحداد أن يجيب، فيقول: الحلق يستباح للحاجة إليه، وبه هاهنا حاجة إليه لئلا يلغو عمله، فلا يحتسب له بحجة ولا عمرة. فإذا قلنا بقول ابن الحداد.. وجب عليه دم؛ لأنه إن كان معتمرا.. فعليه دم التمتع، وإن كان حاجا أو قارنا.. فقد حلق في غير وقته. ومن أصحابنا من قال: يجب عليه دمان؛ لجواز أن يكون قارنا، فيجب عليه: دم القران، ودم الحلاق. وهذا ليس بشيء؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دم واحد.
وهذا صحيح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أهل مهل قط... إلا بشر، ولا كبر مكبر قط إلا بشر " قيل: يا رسول الله، بالجنة؟ قال: «نعم»، وروي عن ابن عباس: أنه قال: (التلبية زينة الحج). وسئل محمد ابن الحنفية عن الجنب يلبي؟ فقال: نعم. ويستحب ذلك للحائض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - وقد حاضت وهي محرمة -: «اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت»، والحاج يلبي، فكذلك الحائض. ويستحب أن يلبي عند اصطدام الرفاق، وعند الإشراف، والهبوط؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي إذا رأى ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا». ويستحب أن يلبي في أدبار المكتوبة، وفي إقبال الليل والنهار؛ لأنه روي ذلك عن بعض السلف، ولأنه وقت صعود ملائكة النهار، ونزول ملائكة الليل. ويستحب أن يلبي في مسجد مكة، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعرفات، وفيما عدا هذا من المساجد قولان: الأول: قال في القديم: (لا يلبي). والثاني: قال في الجديد: (يلبي)، وهو الأصح؛ لعموم الأمر بالتلبية ولأنه مسجد بني للجماعة، فاستحب فيه التلبية، كالمساجد الثلاثة. وأما التلبية في حال الطواف: فقال في القديم: (لا يلبي، وإن لبى.. لم يجهر به) لما روي عن ابن عمر: (أنه كان لا يلبي في الطواف)، وروي عن سفيان: أنه قال: ما علمت أن أحدا كان يلبي في الطواف إلا عطاء بن السائب، فأخبر: أن هذا إجماع، ولأن للطواف ذكرا يختص به. وقال في " الإملاء ": (وأحب ترك التلبية في الطواف للأثر، فإن لبى.. فلا بأس). والأثر هو: ما ذكرناه عن ابن عمر وسفيان. وأما التلبية في السعي: فقال الشافعي في " الإملاء ": (فلا بأس أن يلبي المحرم على الصفا والمروة، وبينهما، غير أني أحب له تركها؛ لأن الذي روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقوف عليهما والتكبير والدعاء، فكذلك بينهما، فأحب له من ذلك ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أن أكره التلبية). وهاتان المسألتان إنما تتصوران في المحرم بالحج، إذا طاف طواف القدوم، وسعى بعده للحج. فأما في طواف الفرض في الحج، أو في طواف العمرة وسعيها.. فلا يتصور له ذلك. ويستحب له رفع الصوت بالتلبية؛ لما روى زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنها من شعائر الحج»، وروى أبو بكر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الحج أفضل؟ فقال: «العج والثج»، ومعنى (العج): رفع الصوت بالتلبية، و(الثج): إسالة دم الهدي، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14]، وروي: «أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا لا يبلغون الروحاء.. حتى تبح حلوقهم» يعني: من رفع الصوت في التلبية. وإن كانت امرأة... لا ترفع صوتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها. وإن كان خنثى.. لم يرفع الصوت: لجواز أن يكون امرأة.
وهل تكره الزيادة على ذلك؟ قال المسعودي [في "الإبانة" ق\ 182] يكره؛ لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنه يلبي ويقول: (لبيك يا ذا المعارج)، فقال: (يا بني، أما إنه ذو المعارج، ولكنا لم نقل هكذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال الشيخ أبو حامد: وذكر أهل العراق عن الشافعي: (أنه تكره الزيادة على ذلك) وغلطوا، بل لا يكره ذلك، ولا يستحب ذلك؛ لما روي في بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في تلبيته: «لبيك حقا حقا، عبودية ورقا». وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمع عليه الناس، فلما تفرقوا عنه.. أعجبه ذلك، فقال: «لبيك إن العيش عيش الآخرة» وروي: أن ابن عمر كان يزيد في تلبيته: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل)، فدل على: أنه لا يكره الزيادة. إذا ثبت هذا: فيجوز كسر الهمزة من قوله: «إن الحمد " وفتحها، فالكسر على معنى الابتداء وهو أولى، والفتح بمعنى؛ لأن الحمد والنعمة لك. و(التلبية): مأخوذة من قولهم: ألب بالمكان، إذا لزمه وأقام فيه، ومعناه: أنا مقيم عند طاعتك، وعلى أمرك، غير خارج عن ذلك، ولا شارد عنه، ثم ثنوه للتأكيد. قال الهروي: ومعنى " وسعديك "؛ أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة. فإذا فرغ من التلبية... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، يقول: «لا أذكر إلا وتذكر معي». ثم يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار؛ لما روى خزيمة بن ثابت: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل الله ذلك بعد التلبية).
قال: (والأعجمي أن أحسن التلبية بالعربية، وإلا.. لبى بها بلسانه). وقال أبو حنيفة: (يلبي بأي لغة شاء)، كما قال في التكبير، وقد مضى الدليل عليه في الصلاة.
وقال أهل الظاهر: (لا يحرم عليه غير حلق شعر الرأس). دليلنا: أنه شعر يتنظف به ويترفه، فلم يجز للمحرم حلقه، كشعر الرأس، وتجب به الفدية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. قال ابن عباس: (معنى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] أي: برأسه قروح أو فيه أذى)، ومعني الآية: فحلق.. ففدية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بكعب بن عجرة وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت برمة له - والقمل ينحدر من رأسه - فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتوذيك هوام رأسك يا كعب؟» فقال: نعم، قال: «احلقه، وانسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين».
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له ذلك، فإن فعل.. لزمه أن يتصدق بصدقة). وقال مالك في إحدى الروايتين: (تلزمه الفدية). ودليلنا: أنه شعر لا يتعلق به حرمة الإحرام، فلم يمنع من إزالته، ولا يجب عليه بإزالته شيء، كشعر البهيمة.
فإن قطع المحرم يده، وعليها شعر وأظفار.. لم تجب عليه الفدية؛ لأن الشعر والظفر تابع لليد، فلا تنفرد بضمان، واليد لا يضمنها بالفدية، كذلك الشعر والظفر، بدليل: أنه لو كانت له زوجة صغيرة، فأرضعتها أمه.. انفسخ النكاح، وضمنت له المهر، ولو قتلتها.. انفسخ النكاح، ولم تضمن المهر.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز له أن يغطي وجهه، فإن فعل.. كان عليه الفدية). دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم الذي خر من بعيره فمات: «كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تقربوه طيبا، ولا تخمروا رأسه وخمروا وجهه». وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم: «لا يلبس عمامة ولا برنسا»، والعمامة ليست بمخيطة، والبرنس مخيط، ولأن الوجه عضو لا يتعلق النسك بحلق شعره، فوجب أن يجوز للمحرم ستره، كسائر البدن. فإن غطى رأسه... وجبت فيه الفدية؛ لأنه فعل محرم في الإحرام، فوجبت به الفدية، كحلق الرأس.
أحدهما: وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق -: أنه لا فدية عليه؛ لأنه لا يقصد به ستر الرأس، وإنما يقصد حمله، فلم يمنع منه، كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في جملة القماش للنقل. والثاني: أن عليه الفدية، وحكى ابن المنذر والشيخ أبو حامد: أن الشافعي نص على هذا. ووجهه: أنه ستر رأسه، فأشبه ما لو طلاه بالطين أو الحناء. وإن ترك المحرم يده على رأسه.. فلا شيء عليه؛ لأن ذلك ليس بتغطية في العادة، ولأنه ستره بما هو متصل به، ولهذا لا يجوز أن يستر عورته بيده.
قال الشافعي: (ولو طلاه بعسل أو لبن.. فلا فدية عليه).
سواء كان معمولا بالخياطة، أو منسوجا على هيئته، أو ملزقا بلزاق؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عما يلبسه المحرم؟ فقال: «لا يلبس قميصا، ولا جبة، ولا عمامة، ولا برنسا، ولا سراويل، ولا خفين، إلا أن لا يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران». فإن لبس شيئا مما ذكرناه.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كحلق الرأس. وإن لبس القباء.. وجبت عليه الفدية، سواء أدخل يديه في الكمين أو لم يدخلهما، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الفدية إلا إذا أدخل يده في الكمين). دليلنا: أنه لبس مخيطا على ما جرت العادة بلبسه، فوجبت عليه الفدية، كالقميص ولأن من لبس القباء.. فمن عادته أن يدخل كفيه فيه، ولا يخرج يديه من كميه في غالب الأحوال، ولا يكاد يخرج يده من كميه إلا لحاجة أو ركوب، فجرى مجرى القميص.
وإن كانت على الرأس.. لزمته الفدية؛ لأنه يمنع من تغطية رأسه بالمخيط وغيره.
وله أن يعقد إزاره؛ لأنه من مصلحته، ويجوز أن يعقد على الإزار تكة أو خيطا، ويجوز أن يجعل له حجزة ويدخل التكة فيها ويعقده؛ لأن كل هذا من مصلحته، ولا بأس أن يتوشح بالرداء، ويغرز أطرافه في أطراف إزاره. ولا يزره ولا يشوكه، ولا يعقده عليه. قال الشيخ أبو حامد: فإن فعل شيئا من ذلك.. وجبت عليه الفدية. وذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": أنه إذا عقد عليه رداءه.. لم تجب عليه الفدية؛ لأنه ليس بمخيط، فهو كما لو التحف به.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\189] إذا كان يمكنه فتق السراويل والائتزار به فلبسه قبل الفتق... كان عليه الفدية. وقال مالك: (لا يجوز له لبسه، فإن فعل.. فعليه الفدية). وقال أبو حنيفة: (يفتقه ويلبسه، فإن لبسه من غير فتق.. فعليه الفدية). دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يجد الإزار.. فليلبس السراويل». وإن لم يجد الإزار.. لم يجز له لبس القميص؛ لأنه يمكنه لبسه على صفته، كالمئزر، بخلاف السراويل. فإن لبس السراويل مع عدم الإزار، ثم وجد الإزار.. لزمه خلع السراويل، فإن لم يفعل مع العلم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه إنما جاز له لبس السراويل بشرط عدم الإزار، وقد وجده.
وأصحابنا يحكون عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك). وأصحابه يحكون عنه: (أنه يجوز). دليلنا: ما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سئلت عن المحرم يشد الهميان في وسطه؟ فقالت: نعم). وله أن يتقلد السيف، ويتنكب المصحف؛ لـ: (أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا المسجد متقلدين السيوف، وهم محرمون).
فإن لبسهما قبل القطع مع عدم النعلين.. لزمته الفدية، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال عطاء، وسعيد بن سالم القداح، وأحمد بن حنبل: (لا فدية عليه). دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين». فإن وجد النعلين.. فهل يجوز له استدامة لبس الخفين المقطوعين؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص -: أنه لا يجوز له، كما قلنا في لبس السراويل بعد وجود الإزار. والثاني: يجوز - وبه قال أبو حنيفة - لأنهما في معنى النعلين، بدليل: أنه لا يجوز المسح عليهما. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الخف المخرق لا يجوز المسح عليه، ولا يجوز للمحرم لبسه. |